المسلخ رقم 05
وأنا أنهي العبارة الأخيرة من الرّواية التي تختم بتلك الجملة الغريبة بوتي ويت Po tee weet أدركت أنني قرأت للتو رواية لا تشبه شيئا ممّا قرأته سابقا لذلك وجدتني ومن جديد أعود لقراءتها مرّة أخرى وكأنّني أبحث فيها عن شيء ما لا أدري ما هو بالتحديد معنى جديد ربما ترتكز الرّواية أساسا على قصف مدينة دردسن الألمانية في أواخر الحرب العالمية الثانية من قبل قوات الحلفاء وهو القصف الذي سبّب مقتل الآلاف من القتلى من المدنيين أكثر حتّى ممّا خلفته قنبلة هيروشيما رغم أن مجزرة دردسن لم تحظ بتغطية إعلامية وشهرة كما الثانية يقول الكثيرون أنّ الحلفاء لم يكونوا حينها يمتلكون أيّة مبررات أو دوافع حربية كافية لذلك القصف العنيف نظرا لأنّ النازية أصلا كانت على وشك الاستسلام بعد أن أنهكت تماما وكانت الحرب تضع أوزارها مما يجعلنا الآن نتساءل عن الدوافع الحقيقية لكلّ ذلك الدمار المهم الأديب الأمريكي كورت فانغوت كان مشاركا حينها في فرقة المشاة الأمريكية وكان شاهدا على تلك المجزرة حيث أسر مع زملاءه في مسلخ لتجميد اللحوم تحت الأرض ممّا كان سببا في نجاتهم ولا أدري كيف استطاع بعدها الحفاظ على سلامته الرّوحية والعقلية لأنّه لم يكتب عنها في الحال ليتخلّص من شياطينه كما يقال بل ظلّ ولسنوات حاملا حالما بها وستظل فكرة الرواية تؤرّقه وتعكِّر صفوه ليل نهار وعلى مدى أكثر من ثلاثة وعشرين سنة ستستمرّ الحبكة في التخلّق والتشكّل والتغيّر والتطوّر ليأتي المخاض وتنشر أخيرا سنة 1969 لكنّ الغريب أنّ الرّواية لم تكن سيرة ذاتية ولا حتّى مذكّرات حربية كما كان من المتوقّع لها أن تكون بل كانت رواية غير تقليدية وغريبة في تركيبها تمزج بين السّيرة الذّاتية والكوميديا السّوداء والميتاروائي رواية داخل رواية والخيال العلمي من الضّروري الإشارة إلى أنّ الرّواية توظّف الخيال العلمي –النظرية النّسبية والسّفر عبر الزّمن لكن دون إمكان تصنيفها ضمن هذا النّوع الرّوائي حسب رأيي لأنّها تختلف عنه كثيرا في تكوينها لن ألخّص الرّواية لأنّ الملخصات مطروحة عادة على الطريق وأيضا لأنّ الرّوايات العظيمة لا تروى كما يقول كونديرا إنّها تقرأ فقط وتعاد قراءتها إلى الأبد يقول كورت فانغوت في الفصل الأوّل كان الزّمن يشكّل هاجسا بالنّسبة لي لهذا ليس من الغريب أن تكون إحدى أسباب قوّة النّص الرّوائي هو مكوّن الزّمن الذي لم يوظّف هنا بشكل خطي تقليدي لا توجد استذكارات أو استشرافات بالمعنى الشّائع بل في صورة دائرية حيث الماضي والحاضر والمستقبل جنبا إلى جنب بشكل متزامن وتوظيف الزّمن بهذا الشّكل جعل بناءها السّردي حلزونيا ملتويا مشوّشا ربما لدرجة أنّ صورة الزّوبعة كثيرا ما راودتني حين كنت أقرأ العمل مثيرة في داخلي شعورا بالدّوار فبيلي بيلغيوم بطل الرّواية العالق عبر الزّمن بسبب صدمة تعرّض لها على مستوى الجمجمة تجده الآن الآن حسب وتيرة القراءة في المسلخ رقم 5 في مدينة دردسدن مع الأسرى الأمريكيين وهو بعد قليل في كوكب ترالمافادور هكذا سمّاه الكاتب مع تلك الكائنات الفضائية الخضراء ذات العين الواحدة ثم يعود مرة أخرى إلى المسلخ أو إلى مدينة إيليوم وهكذا وأعتقد بأنّ هذه القفزات لو قمنا بتمثيلها بيانيا فدون شك سنحصل على شيء يشبه الالتواءات أو الدّوائر أو الموجات تقوم الرّواية إذن على تكسير وهم الزّمن بشكل مخالف للشائع وذلك من خلال السرد الذي يقع فيه الماضي والحاضر والمستقبل جنبا إلى جنب حيث لا يمكن تمييز حاضر البطل من ماضيه من مستقبله بل الكلّ يقع بشكل متزامن أحيانا توصف شخصية ما وفي الوقت نفسه يذكر السّارد كيف عاشت وكيف ستموت شخصية العجوز إدغار ديربي مثلا كلّما جرى الحديث عنه في السّرد إلا وتمّت الإشارة إلى مشهد قتله كما لو أنّه ملتصق به هذا المشهد الذي سيتكرّر منذ السّطر الأول للرّواية كتأكيد على عبثية الموت ليس لمرّة أو لمرّتين بل لعدد لا يحصى من المرّات بقيت فكرة واحدة أساسية في الرّواية وهو التأكيد على أنّ الإنسان مجبر ومسيّر وأنّ هناك دوما قوى كبرى تتحكّم فيه بحيث أنّه لا يملك حرية الفعل والإرادة والتغيير بل يشبه اللعبة أو ريشة في مهب الريح تذّكرت فيلم Forrest Gump أكثر من مرّة وأنا أقرأ الرّواية وما عليه بالتالي إلا أن يرضى ويقبل بما يحصل له لأنّه لا يستطيع تغيير أي شيء فالحروب التي حدثت كان مقدّرا لها أن تحدث وبيلي بيلغريم كان يعلم دوما أنّ لازاريو سيقتله ويعلم المكان والزّمان تحديدا لكنّه يسير خاضعا راضيا نحو قدره مغلق العينين حتّى أنّ الجملة المفتاحية التي تكرّرت أكثر من مرّة في الرّواية هي جملة so it goes ربما لهذا اتّهم الكثيرون الكاتب أنّه يشجّع على الحروب من خلال سلب الإنسان الإرادة الحرّة والقدرة على الفعل وقد جاء على لسان إحدى الكائنات الفضائية ما يلي لقد زرت إحدى وثلاثين كوكبا مأهولا عبر الكون وقمت بدراسة تقارير حول ألف كوكب آخر وكوكب الأرض هو الكوكب الوحيد الذي يوجد فيه كلام حول الإرادة الحرّة ص121 أمّا Po tee weet الذي بدأت بها مراجعتي هذه فهي محاكاة لفظية لأصوات الطيور أي أنّها في الحقيقة جملة لا مدلول لها في الحقيقة في اللغة البشرية ولكنّها تأخذ دلالات كبرى في الرّواية لدرجة أنّنا نلتقي بها ثلاث مرّات في بداية الرّواية في منتصف الرّواية تماما أي الصّفحة 137 وفي آخر الرّواية والمشهد العام الذي صور فيه مشهد الطيور هو ما ينحها تلك المعاني فالناس أحرقت والأرض أصبحت تشبه سطح القمر برمادها وصخورها السّاخنة والدّمار يعمّ كلّ شيء لكن هذا لا يمنع الطيور أبدا من أن تغرّد متجاهلة كلما يحدث حولها فهكذا تمضي الحياة So it goes ولا معنى أبدا للوقوف على لحظة معيّنة بائسة رواية عظيمة وحسب